القصيدة العربيّة في العصر العبّاسي وتطوّرها
مؤيد الشرعة - جامعة آل البيت
يعدّ العصر العباسي عصر الازدهار والنهضة العربية في العلوم والآداب المختلفة في القرن الرابع هجري، إذ طرأ بعد ترسّخ الدولة العباسية وثبات أركانها طفرة علمية وثقافية، وتجديد في بنية القصيدة العربية؛ نتجت بسبب العديد من العوامل السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية.
الظروف المساهمة لحركة تطوّر القصيدة
من العوامل السياسية التي ساهمت في تطور الحركة العلمية، بناء عاصمة جديدة للدولة، ورغبة الخلفاء في جعلها تمتاز عن حاضرة الأمويين دمشق، فكان لها النصيب الوافر من الحظوة والعناية، إذ كان فيها أسواق للورّاقين والنسّاخين ومكتبات ضمت مختلف الكتب، بالإضافة إلى تقريب الخلفاء للشعراء والعلماء ومنحهم العطاء الجزيل. بل ذُكر أنّ الخليفة المهدي أجرى عطاءً لمروان بن أبي حفصة مقداره مائة ألف درهم على مديحه له، وذُكِر أيضًا أنّ الرشيد قد نافس البرامكة في البذل في العطاء على الشعراء والمادحين (1).
هذا بالإضافة إلى ما تم بناؤه من مكتبات، ودور للترجمة، ومدارس علمية، مثل مكتبة بيت الحكمة، والمدرسة المستنصرية، وغيرها، مما ساهمت على اكتساب الثقافة وإدخال علوم المنطق والفلسفة اليونانية، والبلاغة والبديع (2).
أما العوامل الاجتماعية فإننا نلاحظها جلياً في تأثيرها على العقلية الثقافية العربية، فقد اتسم المجتمع العباسي بالتنوّع، وتعدد الأجناس، وتنوّع الثقافات، فقد دخلت الثقافة الفارسية مع موجات الجيوش العباسية، وامتزجت بالثقافة العربية، وظهر لدينا شعراء من أصول فارسية مثل أبي نواس وبشار بن برد وغيرهم، وقد حاولوا التجديد في القصيدة العربية، والثورة على تقاليدها.
وفضلاً عن ذلك كانت الحياة في العصر العبّاسي تشهد حالة من الجدال الثقافي، فكان الصراع بين أنصار العروبة والتمسك بالتقاليد العربية، وأنصار الشعوبية على أشدّه، فكانت هنالك مطارحات شعرية ومناظرات أدبية، حاول فيها كل فريق تسفيه خصمه وبيان حجته عليه.
قراءة في تطوّر القصيدة العربية
الثورة على التقاليد
حافظت القصيدة العربية على تقاليدها القديمة في العصر العباسي عند غير قليل من الشعراء المحافظين، كما أنها كانت حاضرة عند الشعراء المجددين والمعارضين للتقاليد وذلك في قصائدهم الموجّهة للخلفاء، إذ كان لا بد على الشاعر أن يقف على الأطلال وأن يصف الناقة ويذكر لوحة الرحلة في مدحه للخليفة.
إلا أن هذا الالتزام لم يمنع الشعراء من محاولات التحرّر من قيود التقليد، فراحوا يجددون بالألفاظ وأساليب استعمالها، وتطعيم أشعارهم بألفاظ أعجمية أو عامية، والابتعاد عن ألفاظ البادية والصحراء، واللجوء للألفاظ السهلة السائغة، فهذه جارية ترثي البرامكة وتختم أبياتها بلفظ عامي بقولها "يا مواليه" (3) .
ولكن ليس كل الشعراء مالوا إلى استعمال الألفاظ السهلة البعيدة عن ألفاظ البادية، بل إن بعضهم أخذ اتجاها معاكسًا، نحو الغريب من الألفاظ، التي لا يفهم معناها، ولا يسهل نطقها إلا بعد جهد.
أما على مستوى الموضوعات، فنجد حضوراً لغير قليل من الموضوعات الجديدة، فقد ظهر شعر الخمريات، والمجون، والزهد، والتصوف، وقد تشعبت موضوعات قديمة، فظهر لدينا رثاء الحيوانات، ومدح الصفات، ووصف الحدائق والقصور، ورثاء المدن، والغزل الحسي، والشعر التعليمي.
بالإضافة إلى ذلك نجد أن عدداً غير قليل من الشعراء المجددين تخلّوا عن قواعد بناء القصيدة، من وقوف على الأطلال، وذكر لوحة الناقة ووصفها، وكذلك لوحة الرحلة، بل أن بعضهم عاب هذا وسخر منه كحال أبي نواس، الذي اخترع مقدمة خمرية:
عاج الشقي على رسم يسأله وبت أسأل عن خمارة البلد
وهؤلاء الشعراء أصبحوا يدخلون في صلب موضوع القصيدة أو بأبيات تصف الخمرة، مبتعدين عن الأصول القديمة للقصيدة، محتجين أن بيئتهم لا طلل فيها، ولا حضور للناقة، ولا سبب يدفعهم للرحلة.
التجديد في الأوزان والقوافي
أما من ناحية التجديد في الأوزان والقوافي، فقد شهد العصر العبّاسي تجديدًا واضحًا؛ نتيجة شيوع الغناء والقواني والطرب، وقد شاعت الأوزان الخفيفة المتناسبة مع الأشعار الغنائية، وقد ظهر لدينا وزنان شعريان، هما المضارع والمقتضب، ونظمت عليهما الأشعار كي تغنى، وتم تأليف موسوعة خاصة في هذا المجال، وهي كتاب الأغاني لأبي فرج الأصفهاني.
صور وأنماط جديدة للقصيدة العربيّة
وقد ظهر لدينا صيغ أخرى للشعر، فلم تعد القصيدة العربيّة على شكلها السابق، فقد ظهر المسمطات أو الشعر المزدوج، والخماسيات، والرباعيات مثل رباعيات الخيام.
بين النحو والتجديد
أما من ناحية الاهتمام باللغة والنحو، فكان شعراء عصر بني العبّاس ملتزمين بالقواعد النحوية، وسلامتها، حتى وإن كانوا من الثائرين على القديم، فكان من العيوب التي يتفاداها الشاعر السقوط في الخطأ النحوي، خاصة في عصر كثر فيه النحاة وعلماء اللغة.
إنّ المتأمّل في العصر العبّاسي، يلحظ أنه عصر الانفتاح والنهضة، وأنّ مثل هذه الحركة التجديديّة في الشعر؛ نتيجة التطور العلمي والأدبي، فكان التجديد في القصيدة العربية أمرًا حتميا في العصر العبّاسي.
المصادر: (1) ينظر: ضيف، شوقي: العصر العباسي الأول، دار المعارف، القاهرة، ط(10)، د.ت، ص49. (2) ينظر: أبو حمدة، محمد علي: النقد الأدبي حول أبي تمام والبحتري في القرن الرابع، دار العربية للنشر، بيروت، ط(1)، 1969، ص19-21. (3) العصر العباسي الأول، ص197.