وداعاً يا حاضن القلم الأنيق، وداعاً أيها الشاعر الحر… وداعاً جريس سماوي

"مُرًّي على الكلمات واختاري ـ كلاماً ناعماً كالغيم، مُري ـ هدّي على نبعي كحُلم يمامةْ ـ وتطهري برهافةِ العطر ـ وتهجدي في ظل روحي ـ واغمُري بالماء أجراسي وسرّي ـ مُرًّي على الكلمات... مُرّي"- من قصيدة "كلام"

غاب عنّا صانع الكلمة الراقية، وصاحب الحضور الطاغي، ليفقد الأردن والأردنيون مع فجر يوم الخميس الموافق 11/3/2021 شاعرهم المحبوب والكاتب ووزير الثقافة الأسبق جريس سماوي، ولتفقد الساحة الثقافية والأدبية العربية قامة من قاماتها. رحل عنّا جريس تاركاً خلفه حزناً كبيراً في القلوب والنفوس، وإرثاً عظيماً من الثقافة والشعر والكلمات.

"تمهّل قليلاً إذنْ أيّها الموتُ_ كيما يودّعُ موتى قريبون موتى بعيدين في موتهمْ_ وتمهّلْ كذلك كيما يقيمُ الفراغُ احتفالاتِه_ باندثارِ الحياةِ على الأرضِ_ كيما يدثّرها بالخرابِ" - من قصيدة "ثلاثُ ليالٍ سويّاً"

الشاعر الذي طلب من الموت التمهُّل، رحلَ على عجل! لقد كان رحيله مبكراً ومفاجئاً ومؤلماً، هو الذي لطالما طمأن محبيه أنه بخير وبصحة جيدة بعد إصابته بفيروس كورونا، وأنها "شدّة وستزول". الشاعر المفعم بالأمل، المتواضع والقريب من جميع من عرفه، رحل بصمت تاركاً أعمالاً لن تكتمل، وجروحاً لن تُشفى.

جريس سماوي؛ طفولته، تعليمه، وبداياته

وُلد جريس سماوي بتاريخ 22/12/1956 في عمّان، وتأثّر كثيراً بوالده الشاعر وعازف الربابة حنّا سماوي، وحصل على دراسته الأولى على يد والدته التي كانت تعمل معلّمة في حينها. لقد حرص جريس على حفظ فضل والديه عليه والإشادة بدورهما الكبير في حياته، فخطّ سطور الإهداء في ديوانه "زلّة أخرى للحكمة" قائلاً: "إلى أمي التي علّمتني الأبجديّة، وإلى أبي الذي علّمني الشعر".

تلقّى جريس تعليمه الابتدائي في بلدته "الفحيص"، وأنهى الثانوية في مدرسة صويلح الثانوية للبنين سنة 1976، ثم هاجر مبكراً مع عائلته إلى الولايات المتحدة الأمريكيّة حيث درس "فن الاتصالات الإعلامي" في City College of New York University.

وبعد اثنتي عشر سنةً، عاد جريس سماوي إلى وطنه، وحصل على شهادة البكالوريوس في اللغة الإنجليزية وآدابها من الجامعة الأردنية سنة 1988، لتبدأ بعدها مسيرته الثقافية والإبداعية.

جريس سماوي؛ مسيرة أردنية وثقافية مميّزة

أطلّ علينا جريس لأول مرّة عبر شاشة التلفاز الأردني في برنامج "يسعد صباحك"، وعمل معدّاً ومقدّماً لعدد من البرامج الثقافية على القناتين العربية والإنجليزية ما بين العام 1992 والعام 1997. وبعد ذلك، شهدت أعمدة جرش على محبته للكلمة والأرض، فقد تولى جريس منصب نائب مدير مهرجان جرش للثقافة والفنون (1997-2001)، ثم منصب مدير عام المهرجان (2001-2006).

وما بين العام 2006 والعام 2011، عُيّن أميناً عاماً لوزارة الثقافة، ثم وزيراً للثقافة في حكومة دولة السيد معروف البخيت في العام 2011. لقد كان جريس عضواً في اللجنة الوطنية العليا لإعلان عمّان عاصمة للثقافة العربية لعام 2002، وعضواً في اللجنة الأردنية لمعرض "هانوفر" الدولي، كما كان عضواً في رابطة الكتّاب الأردنيين.

إبداعاته وقصائده وأسلوبه الشعري

"وأصيحُ هأنذا عثرتُ عليّ، هأنذا وجدتُ دمي، شبيهي في التراب، وجدتُني.. وجهان لي في دفترِ التاريخ، لي في كلّ وجهٍ منهما وجهُ النقيضِ، أنا الضحيّةُ والمضَحّي والصلاة" – من قصيدة "أقتفي أثري، أنقّب عن بلادي"

هكذا ودّعنا جريس سماوي وودّع قلمه والأوراق، فألقى هذه القصيدة في آخر مرّة أطلّ فيها علينا، قبل أن يغيّبه الموت، وقبل أن يقول كلمته الأخيرة. وعلى الرغم من أنه كتب الكثير من الكلمات والعديد من القصائد، التي تُرجمت إلى الإنجليزية والفرنسية والإسبانية والإيطالية والرومانية والتركية، إلا أنه لم يُصدر سوى ديوان شعري واحد "زلّة أخرى للحكمة" في العام 2004، وكان يستعد لإصدار ديوانه الثاني قبيل وفاته.

نال شاعرنا الأردني الجائزةَ الأولى لأفضل قصيدة عربية عن الانتفاضة الفلسطينية من اللجنة الشعبية الأردنية لدعم الانتفاضة سنة 1987، وامتازت جميع أشعاره وقصائده بجمال اللغة، وعذوبة الحرف، وصدق الكلمة، هو القائل: "علينا نحن الشعراء أن نهرب من الساسة وتجار الكلام من أجل إعادة الصدق والثقة إلى الكلمة الحافية السائرة في الطرقات والأحلام".

الأدباء لا يرحلون، إذ تبقى من بعدهم الكلمات، نحفظها في قلوبنا ونتناقلها جيلاً من بعد جيل. وجريس سماوي سيبقى حاضراً معنا بحضور كل بيت من أشعاره الأنيقة، وبحضور كل حرف من حروفه المضيئة. سنلتقيك في بيوت القصيدة وبين أعمدة جرش وكلّما حلّ الربيع... وداعاً جريس سماوي.

بطاقات أمنية الالكترونية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *