المناظرات في العصر العباسي
مؤيد الشرعة / جامعة آل البيت - يعدّ فن المناظرات من الفنون النثرية التي ظهرت في العصر العباسي فيما يقارب القرن الثاني للهجرة، وكثرة الطوائف الدينية والعقائدية، والمدارس النحوية، فقد كان العصر العباسي عصر النهضة العلمية والأدبية، وهو لا شك عصر زاخر بالصراعات المختلفة.
والمناظرة في اللغة، تعني المثل وقيل المثل في كل شيء، وفلان نظيرك أي مثلك في كل شيء[1].
أما اصطلاحًا، فقد ذكر أحمد بن فارس في مجمل اللغة أن المناظرة شكل من أشكال الجدل الفكري، وهو يعتمد على الخطاب الشفوي[2]، والمناظرة تقوم على طرح الخصمان فكرهما، وتقديم الحجج والبراهين العقلية والشواهد الدينية أو الشعرية؛ لإقناع الآخر.
والمناظرات فن مغرق في القدم، إذ ترجع أصوله إلى اليونان القدامى، فقد ارتبطت المناظرات عندهم بالمواضيع الميتافيزيقية الغيبية، فهم كانوا أصحاب المنهج الجدلي، وكانوا يعتمدون على هذا الفن في إثبات وجهات نظرهم[3].

أما في العصر العباسي فقد انتشرت المناظرات بصورة أوسع، بين المتكلمين والفقهاء وأصحاب الملل والنحل، وقد اهتم بها الناس كثيرًا؛ لأنها كانت مهمّة لهم بسبب مساسها بأمور حياتهم بشكل مباشر، ولكون أغلبها كان يعقد في المساجد أمام العلن.
ولعل أبرز الطوائف التي كانت معنية بالمناظرات في العصر العباسي هم المعتزلة[4]، فقد كانت هذه الفرقة سببا وجيها لظهور فن المناظرة لكونها أكثر الفرق مجادلة مع غيرها، فقد كانوا يسعون إلى التصدي للملاحدة، والشعوبيين، وغيرهم.
أنواع المناظرات في العصر العباسي
المناظرات الدينية
هي التي كانت تدور حول مسألة تختص بالدين الإسلامي، أو غيره من الأديان، وقد كانت كثيرة وتتصف بأنها ذات أهمية للناس لأنها تمس دينهم بشكل مباشر، وتتقاطع في بعض الأحيان مع الأمور السياسية، مثل قضية الإمامة التي ناظر فيها الخوارج أهل السنة.

وهناك مناظرات كثيرة في السياق الديني كان الخلفاء رعاتها، فقد ذكر أن هارون الرشيد رعى مناظرة بين الإمام الشافعي ومحمد بن الحسن حول مواضيع فقهية، ولا ننسى مناظرة الإمام أحمد حنبل في قضية خلق القرآن المشهورة.
المناظرات النحوية
شاعت في العصر العباسي المناظرات النحوية، فقد كانت هي الأخرى كثيرة، وكان الخلفاء يعنون بها؛ ذلك لاتساع الجدل في علم النحو، وظهور مدارس نحوية متعددة، مختلفة الآراء والمذاهب، ومحاولة كل مدرسة بيان حجتها وصحة رأيها على الأخرى، وجدير بالذكر أن نطرح قضية المناظرة الزنبورية بين سيبويه والكسائي، وكيف استطاع الأخير أن يحتال على سيبويه وينتصر بالمناظرة النحوية، فقد قام الكسائي بتوجيه سؤال لسيبويه عن جواز الرفع والنصب في قولنا: "قد كنت أظن أن العقرب أشد لسعة من الزنبور، فإذا هو هي، أو فإذا هو إياها"، فأقر سيبويه بجواز الرفع من غير النصب، إلا أن الكسائي أحتال عليه بأن أشهد زورًا مجموعة من الأعراب على صحة قوله بأنه يجوز فيها النصب والرفع.

المناظرات الأدبية المتخيلة
وهي التي تجري في مخيلة الكاتب، سواء بين شخصيات بشرية متخيلة، أو بين جمادات أو حيوانات، وهذه المناظرات يطلق فيها الكاتب العنان لخياله في مناقشة قضايا قد تكون جديدة وغير متناولة، مضفيًا عليها طابعًا من التجديد في الأسلوب والعرض، بالإضافة إلى أنه وسيلة له لاستعراض ثقافته وفكره ومعلوماته.
فهذه المناظرات المتخيلة يكون الحكم فيها محسومًا من قبل في ذهن الكاتب، ويكون متجهزًا لأية حجة يمكن أن تدعم الرأي المخالف له، وأن يفنّدها دون أن يجد من يرد عليه، وينظر للموضوع من زاوية أخرى[5].
وقد ذكر سيد أحمد الهاشمي في كتابه جواهر الأدب أمثلة على مثل هذا النوع من المناظرات مثل المناظرة التي جرت بين السيف والقلم وبين الليل والنهار، وبين الهواء والماء، وبين الجمل والحصان[6].
[1] الأفريقي، ابن منظور: لسان العرب، دار صادر، بيروت، ط(3)، مج(5)، 1994، ص216.
[2] الرازي، أحمد بن فارس: مجمل اللغة، تحقيق شهاب الدين أبو عمرو، دار الفكر للطباعة والنشر، د.ط، 1994، ص109.
[3] ينظر: السويكت، عبدالله خليفة: البنية الحجاجية في المناظرات الأدبية، مجلة العلوم الإنسانية والإدارية، جامعة المجمعة، ع(7)، 2015، ص7-8.
[4] الشهرستاني، : الملل والنحل، و ينظر: ضيف، شوقي: العصر العباسي الأول، دار المعارف، القاهرة، ط(3)، د.ت، ص457.
[5] مارديني، رغداء: المناظرات المتخيلة في أدب المشرق والمغرب والأندلس، دار الفكر المعاصر، ط1، 2017، ص312-320.
[6] الهاشميسيد أحمد: جواهر الأدب، مؤسسة المعارف، بيروت، د.ط، ج1، ص235-261.