العاميّة في الرواية العربية المعاصرة… تجديد أم تراجع في الإبداع العربي
مؤيد الشرعة - جامعة آل البيت - لا مراء في أنّ الرواية العربية المعاصرة توجّهت نحو ضروب وألوان من المحاولات التجديديّة، والابتكار في الفكر والأسلوب، مما أكد أن الفكر العربي لازال يمثل بيئةً خصبة للإنتاج الإبداعي، خاصةً بعد فترةٍ غير قصيرة من التقليد للنص الأجنبي.

التجديد في الموضوع
ظهرت محاولات تجديديّة على مستوى الموضوع، وبدأت الرواية تتفاعل مع محيط واقعها، فالأديب أو الفنان ابن بيئته، والعمل الفني ما هو إلا انعكاس عن الواقع، يتحدث عنه ويرويه، ويحاول معالجة مشكلاته.
وأمثل على هذا برواية "أنت منذ اليوم" لتيسير سبول، الذي حاول أن يصف الواقع العربي بعد حرب حزيران، وما يعانيه المواطن من انهزام داخلي ونفسي؛ نتيجة الخسارة للأرض، فتحدّث الكاتب من خلال شخصيات روايته عن دوافع الهزيمة، وما حل ببعض الشخصيات الأخرى من تبعات نفسية، ووجوديّة في حياتها.
التجديد في اللغة
أما على مستوى اللغة، فقد كانت تنحو إلى الرصانة والفصاحة في كتابة العمل الأدبي؛ ذلك لأن المعيار في الأدب أن يكون النص لغته سليمة بعيدة عن العاميّة والركاكة، لكن ما لبث هذا المعيار أن أختلّ في محاولات لثني عنق الأدب، لأن يستوعب مثل هذه النصوص، التي كتبت بلهجات كتابها، فاللغة العربية الفصيحة هي لغة عالية وتصلح لأن تكون ممثلة للخطاب الثقافي والأدبي، وإبعادها عن الأعمال الأدبية يمهّد طريق تفككها وموت ألفاظها.
والحقيقة أنّ مثل هذه المحاولات الكتابية، التي تهدف لتطويع العامية واللهجات في الكتابة الأدبية، ما هي إلا محاولات تقزّم العملية الإبداعية العربية، فهي تحصر كل مؤلف في نطاق جغرافي تدرج فيه لهجته، وبدلا من أن يكون الأدب نصا عاما مفتوحا للتلقي من الجميع، يصبح نصّا موجّها ومحصورا في الفئة المتكلمة في تلك اللهجة، بالإضافة إلى أن الخطاب بلهجة عامية لا يكسب هذا النص المكتوب أفضلية عن لغة الخطاب العادية الحياتيّة، وتصبح الثقافة مشوّهة بلا أداة تعبير سامية تعبر عنها.

العاميّة وأثرها في النصوص الأدبية
فضلا عما سبق فإن الكتابة باللهجة العاميّة، تهلهل قواعد النحو والإملاء، وبذلك تتكون طبقة من القرّاء جاهلة بقواعد ومبادئ الكتابة السليمة، بالإضافة إلى تغييب كامل الألفاظ الفصيحة، وبالتالي تصبح الفصاحة التي هي لسان المثقف العربي، والجامع لأبناء الأقطار المختلفة في حالة ضعف ووهن، وربما تؤول حالها إلى أن تموت، ويتسيّد عوضًا عنها اللهجات المختلفة، وتصبح لغاتًا مشتقة عن العربية الأم، كما حصل مع اللغة السريانية التي تفرع عنها غير قليل من اللغات؛ نتيجة اختلاف الأقطار الجغرافية لساكنيها، وتأثرهم بالبيئة المحيطة، واكتسابهم لعادات لغوية جديدة ولّدت نمطًا جديدًا من المفردات.
محاسن اللغة السليمة الرصينة
على هذا القول فإن ضرورة اعتماد لغة رصينة في العملية الإبداعية العربية مطلب حقيقي؛ لأن استعمال لغة رفيعة تبتعد عن العامية، يجعل النص الأدبي عامًا وغير محصور بفئة ما أو رقعة جغرافية تتحدث بلهجة كاتبها، وأيضا تجعل من ترجمته أمراً سهلاً، لأن المترجم قد لا يحيط بكل الكلمات الموجودة في اللهجات العربية، لكن الفصيحة منها، تتواجد في أي معجم.
وأخيراً إن الكتابة في لغة رصينة يجعل النص الإبداعي موجها للفئة المثقّفة القارئ، بل وتجعل غير المثقف يثقل مهاراته اللغوية، ويتدرج في اكتساب اللغة الرصينة، والثقافة اللغوية، ومن جهة أخرى، يتوسع في استمداد الألفاظ الفصيحة من المعاجم اللغوية، التي تحدد آلية استعمال كل كلمة، والسياق المناسب التي تعمل بها.