إلكترونية أم كيماوية؟
هذا المقال مقدم من مستشار الاتصال والعلاقات العامة والتدريب
أ. كمال ميرزا لصالح جمعية لا للتدخين
السجائر الإلكترونية: خرافات يجب أن تفنّد
ثلاثة مراهقين يرتدون زي المدرسة الخاصة التي يدرسون فيها، يدخلون أحد محلات بيع السجائر ومنتجات التبغ في إحدى المناطق الحيوية في العاصمة عمان، يشترون بما قيمته (200) دينار منتجات ما يسمى "السجائر الإلكترونية" من أجل تسويقها بين زملائهم في المدرسة، تعامل الطلاب والبائع يوحي أنهم على معرفة مسبقة، وأنها ليست المرة الأولى التي يتم إبرام مثل هذه "الصفقة" بينهم!
الموقف أعلاه بحد ذاته هو جريمة يعاقب عليها القانون، سواء بسبب بيع المحل منتجاته لمن هم دون الثامنة عشرة، أو بسبب بيعه منتجات هي أساسا محظورة ويمنع استيرادها وبيعها في المملكة.
ولكن إذا وسعنا زاوية الرؤية أكثر، فإن الموقف أعلاه هو بمثابة قمة الجبل الجليدي فقط لظاهرة خطيرة تستشري بشكل متسارع في المجتمع الأردني، وتنتشر انتشار النار في الهشيم خاصة بين فئات الأطفال واليافعين والنساء من غير المدخنين.
عنوان هذه الظاهرة هو ما يسمى تضليلا "السجائر الالكترونية"، والأيدي الخفية وراءها هي شركات السجائر والتبغ الساعية لتبديل جلدها وزيادة أرباحها، والحبكة التي تقوم عليها هذه الخديعة مجموعة من الخرافات والأسئلة المسكوت عنها من قبل الأهالي ووسائل الإعلام والجهات الرسمية على حد سواء!
كذبة تكلفك حياتك
الكذبة الأولى أو الخرافة الأولى التي تقوم عليها ما تسمى "السجائر الالكترونية" هي أنها آمنة وصحية، أو حتى أقل ضررا من السجائر ومنتجات التبغ الاعتيادية.
بالنسبة للسجائر الالكترونية المسماة ب (Vapor)، والتي تقوم على تعاطي النيكوتين، أو النيكوتين "الصافي" على حد زعم مروّجيها، فهي تغفل أن النيكوتين نفسه مادة مضرّة بالصحة.
النيكوتين يصنّف علميا كـ "مادة قلويّة سامّة"، وهو يتسبب بتضييق الأوعية الدموية وفي نفس الوقت زيادة إفراز "الأدرينالين"، هرمون "الكر والفر" في الجسم، والذي يُفرز لاستنفار الشخص عندما يكون في حالة خوف أو ذعر أو قلق أو توتر أو دفاع عن النفس.
وبالنتيجة يؤدي النيكوتين إلى تسارع نبضات القلب المصحوب بارتفاع ضغط الدم وزيادة حرق السكر في الدماغ والعضلات، الأمر الذي يقود إلى المخاطر المعروفة للتدخين على صحة وسلامة القلب.
بل أن مشاكل القلب المرتبطة بالتدخين، والتي اعتدنا أن نسمع بها في عمر كبير نسبيا، أصبحت تظهر بسبب السجائر الإلكترونية والجرعات الكبيرة والمركزة من النيكوتين في عمر صغيرة نسبياً، وصولا إلى جلطات الشباب والأطفال والموت المفاجئ التي تزداد معدلاتها يوماً بعد يوم.
وتسارع نبض القلب يصاحبه بالضرورة تسارع معدل التنفس الذي قد يؤدي هو الآخر إلى فشل الجهاز التنفسي والوفاة.
كل ذلك إلى جانب المخاطر الأخرى المعروفة للنيكوتين مثل تسريع معدلات الأيض التي تقود إلى نحافة مرضيّة، والتلبكات المعدية والمعوية التي تتسبب بمغص وإمساك، وأحيانا على النقيض إسهالات، إضافة إلى فقدان الشهية الذي قد يؤدي إلى مزيد من النحافة المرضيّة والضعف العام والهزال.
بل إن للسجائر الالكترونية التي تقوم على تعاطي النيكوتين مخاطر إضافية غير تلك المرتبطة بالسجائر التقليدية، فالكميات الكبيرة من بخار الماء التي تدخل الرئتين تؤدي مع الوقت إلى تجمّع السوائل في الرئتين واحتشاء عضلة القلب.
أما المنكّهات التي تضاف إلى النيكوتين فهي بحد ذاتها مواد كيمياوية سامة ترهق جهاز المناعة والكبد المسؤول عن التعامل معها وتصفيتها حتى وإن لم يكن لها تأثير سمّي مباشر.
وإذا أضفنا إلى ما تقدم أن النسبة الأكبر من منتجات النيكوتين الموجودة في الأسواق مقلّدة أو مهرّبة أو مجهولة المصدر، فإن ذلك يعني المزيد من المخاطر الصحية والمزيد من حالات الوفاة والموت المفاجئ بفعل النيكوتين.
وهناك حالات موثقة للتأثير القاتل للنيكوتين على القلب والوفاة المفاجأة لأطفال بسبب امتصاص النيكوتين عبر الجلد مباشرة نتيجة انسكاب عبوات النيكوتين.
أما بالنسبة للسجائر الإلكترونية القائمة على تسخين التبغ وليس حرقه، فعي تعفي متعاطيها من مخلفات عملية الاحتراق فقط، ولكن معروف أن السيجارة المصنّعة الاعتيادية تحتوي أكثر من (4000) مادة كيميائية مختلفة، وغالبيتها مواد سامة وضارة سواء دخلت إلى الجسم بالاحتراق أو بالتسخين.
وعليه فإن لهذه السجائر نفس التأثير الصحي المدمّر للسجائر التقليدية وفي مقدمة ذلك السرطانات.
وهنا لا بد من توضيح الخطأ الشائع أن السرطان سببه قطران السجائر أو دخان احتراق السجائر، واللذان يتسببان بتحوّل خلايا الجسم إلى خلايا سرطانية، وبالتالي من دون قطران أو دخان لن يكون هناك سرطانات.
الخلايا السرطانية هي خلايا تنتج داخل جسم الإنسان بفعل أخطاء أو طفرات تحدث أثناء عملية الانقسام الطبيعية للخلايا (عملية الهدم والبناء)، وجهاز المناعة في الظروف الاعتيادية قادر على التعامل مع هذه الخلايا والتخلص منها قبل أن تتحول إلى أورام.
ولكن التأثير السمّي للمركبات الكيماوية الموجودة في السجائر، باحتراق أو من دون احتراق، هي التي تضعف جهاز المناعة وتحد من قدرته على التخلص من الخلايا المعطوبة، وبالتالي تحوّلها مع الوقت إلى خلايا وأورام سرطانية تقضي على خلايا وأجهزة الجسم السليمة وصولا للوفاة.
كما أن هذه الكيماويات، شأنها شان بقية الملوّثات، تحفّز حدوث طفرات شاذة في خلايا الجسم أثناء انقسامها مما يزيد من معدل إنتاج الخلايا السرطانية في الجسم.
وإلى جانب السرطان، فإن لكيماويات سجائر التسخين نفس مضار حرق السجائر ومنتجات التبغ على القلب والكلى والبنكرياس، وارتباط ذلك بأمراض القلب وارتفاع الضغط والسكري، وهو ما تعززه الأرقام، حيث أن نسبة الإصابة بهذه الأمراض في الأردن هي من أعلى النسب في العالم، وهو ما يتوافق مع ارتفاع نسبة المدخنين في الأردن، حيث يحتل الأردن المرتبة الثانية عالميا، بكون كل (2) من أصل (3) رجال في الأردن هم من المدخنين.
كما أن للسجائر ومنتجات التبغ بمختلف أنواعها وأشكال تعاطيها تأثير مدّمر على الدافعية الجنسية (الليبيدو) والقدرة الجنسية لدى كل من الرجل والمرأة، وعلى القدرة على الإنجاب (الخصوبة) بفعل تشوّه الحيوانات المنوية عند الرجل أو قلة إنتاجها، أو تشوّه البويضات عند الإناث وقلة عددها إلى جانب سرطانات المهبل والمبايض والرحم.
وتزداد التأثيرات المدمّرة على الدافعية والقدرة والخصوبة في حالة الأطفال واليافعين والمراهقين بكونهم ما يزالون في مرحلة البلوغ، وأعضاؤهم التناسلية والإنجابية ما تزال في طور النمو والنضوج الذي يستمر حتى أعتاب العشرين من العمر (ومن هنا أيضا أخطار الزواج المبكر خاصة على الفتيات).
وهم الإقلاع أو التخفيف:
الخرافة الثانية الشائعة بين متعاطي السجائر الإلكترونية هي أنها وسيلة آمنة تساعدهم على تجنب مضار التدخين لحين تمكنهم من تخفيف كمية النيكوتين الذي يتعاطونه وصولا إلى الإقلاع نهائياً عن التدخين.
والحقيقة العلمية هو أنه لا يوجد هناك شيء اسمه "تخفيف" الدخان أو النيكوتين، فإدمان النيكوتين سببه أن النيكوتين يُحدث تغييرات في كيمياء الدماغ محفّزا إفراز الدوبامين (هرمون السعادة) بمعدلات تفوق معدلات إفرازه الطبيعية بالجسم.
ولكن هذا الأثر الإدماني للنيكوتين ذو طبيعة تصاعدية، بمعنى أن الجسم مع الزمن يحتاج إلى جرعة متزايدة من النيكوتين من أجل تحفيز إفراز الدوبامين، ومن هنا يأتي صدق المثل الشعبي الدارج (التدخين أوله دلع وآخره ولع).
فعلي سبيل المثال، إذا كان شخص ما يدخّن علبتي سجائر في اليوم، فهذا يعني أنه بحاجة إلى هاتين العلبتين لإحداث نفس الأثر الذي كانت تحدثه سيجارة واحدة عند بداية تدخينه، وطبعاً مع الوقت لن تعود العلبتين كافيتين وسيحتاج مرة أخرى إلى زيادة الكمية.
لهذا السبب فإن تدخين السجائر بحسب الدراسات هو مدخل لإدمان أنواع أخرى من المخدرات والمؤثرات العقلية، فمع مرور الوقت لا تعود كمية السجائر التي يستهلكها الفرد كافية لإحداث الأثر المطلوب، لذا يلجأ للبحث عن طرق ومواد أخرى لـ "ضبط مزاجه"!
وفي المحصلة، لا يوجد هناك شيء اسمه تخفيف التدخين أو النيكوتين، فإذا كانت جرعة المدخن اليومية هي عشرون سيجارة، فإن خمسة عشر سيجارة أو عشر سجائر أو سيجارة واحدة فقط تستوي جميعها من حيث تأثيرها فيما يتعلق بالإقلاع عن التدخين.
بكلمات أخرى، أفضل طريقة لترك التدخين هي أن تترك التدخين، والتخفيف هو عبارة عن حرق صحة ونقود "على الفاضي"، ونوع من الآلية النفسية الدفاعية التي يخدع بها المرء نفسه لتبرير تخاذله أو تقاعسه أو ضعف إرادته في الإقلاع عن التدخين.
كما أن هناك في الجسم خلايا متخصصة للتعامل مع النيكوتين اسمها "مستقبلات النيكوتين"، وهذه الخلايا تبقى في الجسم حتى بعد توقّف الشخص عن التدخين، وهي التي تسبب الرغبة الملحّة التي يشعر بها المرء للتدخين.
هذه الخلايا لا تفنى عند توقف المرء عن التدخين، ولكنها تضمر مع مرور الزمن لهذا فإن المرحلة الأولى للإقلاع عن التدخين هي الأصعب لحين ضمور مستقبلات النيكوتين مع مرور الوقت.
ولكن الاستمرار بتغذية مستقبلات النيكوتين بالنيكوتين، بغض النظر عن مقدار الجرعة، يعني استمرار هذه المستقبلات بعملها، والحيلولة دون بلوغها مرحلة الخمول، وبالتالي استمرار إحساس المدخن برغبته بالتدخين وعدم قدرته على الإقلاع نهائيا.
وعليه، فإن تعاطي السجائر الالكترونية بهدف التخفيف أو المساعدة في الإقلاع عن التدخين هي كذبة علمية، بل أن الدراسات تشير إلى أن السجائر الالكترونية أصبحت سبباً في زيادة أعداد مدمني النيكوتين من غير المدخنين أصلا، خاصة الأطفال واليافعين والنساء، مدفوعين بوهم "الأمان" و"العلم الزائف" الذي تسوّق بذريعته هذه السجائر، ورغبة منهم بمواكبة هذه "الموضة" أو "التقليعة"!
سيجارة أم لعبة؟
الخرافة الثالثة المرتبطة بالسجائر الإلكترونية هي اسمها نفسه: "سجائر إلكترونية"!
فصفة "الكترونية" التي تطلق عليها، بالإنجليزية (e-cigarette)، تموّه وتخفف وتشوه وتحرّف حقيقة أن هذه المنتجات هي سجائر، سجائر حقيقية بالمعنى الفعلي للكلمة.
فما يسمى "سجائر إلكترونية" هي سجائر تسبب الإدمان، وهي سجائر تدمر الصحة وتتسبب بأمراض خطيرة وأعراض مزمنة، وهي سجائر تؤدي إلى الوفاة والموت المفاجئ، وهي سجائر يسري عليها ما يسري على أي سجائر أخرى من محددات قانونية، مثل منع استيرادها وتداولها (كما في حالة الأردن)، ومنع الدعاية والترويج لها عبر وسائل الإعلام، ومنع بيعها لمن هم دون السن القانونية، ومنع استخدامها وتعاطيها في الأماكن العامة!
كما أن صفة "الكترونية" توحي للجمهور، ولو بطريقة غير مباشرة، بالثقة والقرب والأمان، بكون كلمات مثل "إلكتروني" و"تكنولوجي" ترتبط في "الوجدان الجمعي" بكل ما هو إيجابي، ومفيد، وعلمي، ويخدم الإنسان.
وصفة "إلكتروني" توحي أيضاً بالتقدّم والتمدّن ومواكبة روح العصر، وهو ما يتماهى مع الثيمة الخبيثة التي تعتمد عليها الشركات المصنّعة في ترويج هذه المنتجات، خاصة لدى اليافعين والنساء، فهي لا تقدّم منتجاتها باعتبارها سجائر، وإنما تقدمها باعتبارها إكسسواراً أو جهازاً إلكترونيا شخصياً حديثاً (gadget).
بكلمات أخرى، هذه المنتجات تروّج باعتبارها جزءا من نمط حياة عصري، وموضة يحرص الشخص على ملاحقتها ليكون شخصاً مواكباً وعصرياً و"فايع" و(cool) في عيون أقرانه والمحيطين به، وليكون مرغوباً من قبل الفتيات إذا كان ذكراً، ولتكون جذّابة في عيون الفتيان إذا كانت أنثى.
ومن لا يواكب هذه الموضة أو التقليعة، شأنه شأن الذي يقتنى جهاز موبايل قديم، أو نظارات شمسية أو طبية قديمة، أو إكسسوارات قديمة.. إلخ، هو شخص متأخّر، ومتخلّف، وبدائي، وموضع سخرية وتندّر وتنمّر وإقصاء وتهميش اجتماعيين.
كما أن استخدام هذه المنتجات أصبح تعبيراً عن الانتماء إلى شريحة اجتماعية بعينها، أو طبقة اجتماعية بعينها، أو مستوى معيناً من الثقافة والمعرفة والانفتاح والخلفية الوظيفية والقدرة الاقتصادية.
والمقترح هنا للتعامل مع حرب المصطلحات هذه هو استخدام تسمية "السجائر الكيماوية" بدلاً من السجائر الالكترونية؛ حيث أن كلمة "كيماوي" في الوجدان الجمعي توحي بالخطورة وبالسميّة وبالتلوث. كما أنها ترتبط بالأذهان بالعلاج الكيماوي الذي يخضع له مرضى السرطان، وهو المرض الذي يمثل رعباً من المنظور الاجتماعي لدرجة أن الناس يحجمون حتى عن ذكر اسمه صراحة (هظاك المرض).
كما ينبغي عدم تداول صور هذه السجائر الكيماوية، أو صور الطقوس المصاحبة لها، حتى لو كان ذلك في معرض التعريف بها والتوعية ضدها وضد مخاطرها، والاستعاضة عن ذلك بصور تؤكد المضار الصحية الخطيرة لهذه السجائر أسوة بسائر أشكال التدخين.
وبالنسبة للتسميات التجارية الرائجة لبعض ماركات السجائر الكيماوية مثل :Vape و JUUL وIQOS، عدم استخدام هذه التسميات أبدا إلا في حدود الضرورة القصوى حتى لا يكون ذلك مساهمة في الترويج لها، والإشارة إليها دائما باعتبارها "أدوات للتعاطي"، أي أن يكون الحديث دائماً عن "سجائر كيماوية" و"أدوات تعاطيها".
هذا المقال مقدم من مستشار الاتصال والعلاقات العامة والتدريب
أ. كمال ميرزا لصالح جمعية لا للتدخين